فصل: سنة ست عشرة ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 اثنتي عشرة ومائتين

فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مع ما أظهر في السنة الماضية من التشييع فاشمأزت منه القلوب‏.‏فيها توفي أسد بن موسى الأموي الملقب بأسد السنة والحافظ أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني محدث البصرة والحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابي رحل إليه الإمام أحمد فلم يدركه بل بلغه موته بحمص وإسماعيل بن حماد ابن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم وكان موصوفاً بالزهد والعبادة والعدل في الأحكام ولي القضاء ببغداد ثم بالبصرة وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون صاحب الإمام مالك رحمه الله وكان فصيحاً مفوهاً وعليه دارت الفتيا في زمانه بالمدينة ومفتي الأندلس ‏"‏ الغافقي ‏"‏ كان صالحاً ورعاً مجاب الدعوة مقدماً في الفقه على يحيى بن يحيى‏.‏

 ثلاث عشرة ومائتين

فيها توفي علي بن جبلة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء المبرزين من الموالي ولد أعمى قيل‏:‏ بل عمي من جدري أصابه وهو ابن سبع سنين وكان أسود أبرص‏.‏

قال ابن خلكان ومن فضائله الفائقة القصيدة التي يقول فيها‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف بين مغزاه ومختضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره يستعير منك مكرمة مكتبها يوم مفتخره قلت‏:‏ وحكى بعض أهل المعاني والبيان أن المأمون قال لأبي دلف الأمير المشهور‏:‏ أنت الذي قال فيك الشاعر‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف وأنشد الأبيات قال‏:‏ لا يا أمير المؤمنين بل أنا الذي قال في علي بن جبلة أو قال الشاعر‏:‏ أبا دلف يا أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب فأعجب المأمون ذلك منه ورضي عنه لقه عزه في ظرافته وسرعة فهمه المنجي له من الردىء بما اتقى به من الهجاء فلم يمشه البلاء بل دفع حيلة باتقائه بهجاء ابن جبلة‏.‏

ويحكى أن ابن جبلة المذكور مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بالقصيدة المذكورة فقال له حميد‏:‏ ما عسى أن تقول فينا بعد قولك في أبي دلف كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ أصلح الله الأمير قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا قال‏:‏ وما هو‏.‏

فأنشد‏:‏

إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام ** فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام

فتبسم ولم يرد جواباً فأجمع من حضر المجلس من أهل العلم والمعرفة بالشعر أن هذا أحسن مما قاله في أبي دلف فأعطاه وأحسن جائزته وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء‏:‏ ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً وقال‏:‏ اطلبوه حيثما كان وأتوني به فطلبوه فلم يقدروا عليه لأنه كان مقيماً بالجبل فلما اتصل به الحزب هرب إلى الجزيرة الفراتية وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان فهرب من الجزيرة حتى توسط البلدان الشاميات فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون فلما صار بين يديه قال له‏:‏ يا ابن اللخناء أنت القاتل في قصيدتك للقاسم بن عيسى يعني أبا دلف ‏"‏ كل من في الأرض من عرب ‏"‏ وأنشد البيتين جعلنا ممن يستعير المكارم والإفتخار به‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقدس بكم لأن الله تعالى أحبكم لنفسه على عباده وآتاكم الكتاب والحكم ملكاً عظيماً وإنما ذهبت في قولي إلى أقران القاسم بن عيسى من هذه الناس وأشكاله قال‏:‏ والله ما أبقيت أحداً ولقد أدخلتنا في الكل وما استحل دمك بكلمتك هذه ولكن استحله بكفرك في شعر أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد إلا قضيت بأرزاق وآجال ذاك الله عز وجل يفعله أخرجوا لسانه من قفاه فمات وذكره صاحب كتاب الأغاني كما ذكر ابن المعتز في قضيته مع المأمون‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ورأيت في ‏"‏ كتاب البارع ‏"‏ في أخبار الشعراء المولدين تأليف ابن المنجم هذين البيتين لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة والله أعلم بالصواب مع بيت ثالث وهو‏:‏ تزور سخطاً فتمسي البيض راضية ويستهل فتبكي أعين المال لقد أبدع في هذا البيت بمدحه جامعاً وصفين محمودين عند العرب مع حسن صنيعه في كليهما وهما الشجاعة والكرم فالشجاعة في قوله‏:‏ ‏"‏ تزور سخطاً فتمسي البيض راضية ‏"‏ يعني‏:‏ يقصد الأعداء فتمسي السيوف راوية بدمائهم فكنى عن ربها برضائهما والكرم في قوله‏:‏ ‏"‏ ويستهل فتبكي أعين المال ‏"‏ يعني‏:‏ يضحك استبشاراً بالضيفان فيعقر ويذبح لهم السمان وفي ضمن ذلك بكاؤها بما عرض لها من الأحزان‏.‏

ومن مدحه لحميد‏:‏ ويكفي سابهن الدنيا حميد فقد أضحوا له فيها عيالاً ولما مات حميد المذكور في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيدة من جملتها‏:‏ فآدابنا ما أدب الناس قبلنا ولكنه لم يبق للصبر موضع ورثاه أبو العتاهية بقوله‏:‏ أبا غانم أما فناك فواسع وقبرك معمور الجوانب محكم وما ينفع المقبور عمران قبره إذا كان فيه جسمه يتهدم قلت‏:‏ لفظ فناك في البيت الأول ليس هو في الأصل المنقول منه وإنه فيه ‏"‏ دارك ‏"‏ وهو لا يتزن فأبدله ‏"‏ بفناك ‏"‏‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي صاحب المسائل الأسدية التي كتبها عن ابن القاسم‏.‏

وفيها توفي الحافظ الزاهد العابد عبد الله بن داود سمع الأعمش والكبار وكان من أعبد أهل زمانه‏.‏

وفيها توفي إسحاق بن مرار ‏"‏ بكسر الميم وبالراء قبل الألف وبعدها ‏"‏ النحوي اللغوي الشيباني منزلاً كان من الأئمة الأعلام أخذ عنه جماعة كبار منهم الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام ويعقوب بن السكيت وقال في حقه‏:‏ عاش مائة وثماني عشرة سنة وكان يكتب بيده إلى أن مات‏.‏

وقيل توفي في سنة ست ومائتين وعمره مائة وعشر سنين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهو الأصح وله مصنفات عديدة في اللغة وغريب الحديث والخيل والإبل وخلق الإنسان والنوادر وأشعار العرب ونحو ذلك وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب وأراجيز العرب وقال ولده لما جمع أشعار العرب ودونها كانت نبفاً وثمانين قبيلة وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً وجعله في مسجد الكوفة حتى كتب نيفاً وثمانين مصحفاً‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي الحافظ وكان إماماً في الفقه والحديث والقرآن موصوفاً بالعبادة والصلاح لكنه من رؤوس الشيعة‏.‏

وفيها توفي الهيثم بن جميل البغدادي الحافظ نزيل أنطاكية كان من صلحاء المحدثين وإثباتهم رحمة الله عليهم‏.‏

 أربع عشرة ومائتين

فيها التقى محمد بن حميد الطوسي وبابك الخزمي وهزم بابك وقتل الطوسي وفيها تقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين أميراً على خراسان وأعطاه المأمون خمسمائة ألف دينار‏.‏

وفيها توفي أبو عمر معاوية بن عمرو الكندي البغدادي الحافظ المجاهد روى عن زائدة وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم الفقيه المالكي البصري انتهت إليه رئاسة الطائفة المالكية بعد أشهب روى عن مالك الموطأ سماعاً وكان من ذوي الأموال والرياع وله جاه عظيم وقدر كبير ويقال أنه دفع للإمام الشافعي عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله وأخذ له من تاجر ألف دينار ومن رجلين آخرين ألف دينار وهو والد أبي عبد الله محمد صاحب الإمام الشافعي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وأجل ما روى بشر بن بكير قال‏:‏ رأيت مالك بن أنس في النوم بعدما مات بأيام فقال‏:‏ إن ببلدكم رجلاً يقال له ابن عبد الحكم خذوا عنه فإنه ثقة والله أعلم‏.‏

خمس عشرة ومائتين فيها توفي الحافظ إسحاق بن عيسى بن الطباع البغدادي وفيها توفي العلامة أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري البصري اللغوي قال أصحاب التاريخ‏:‏ كان من أئمة الأدب وغلبت عليه اللغات النوادر والغريب وكان ثقة في روايته‏.‏

وقال أبو عثمان المازني‏:‏ رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد المذكور فقبل رأسه وجلس بين يديه وقال‏:‏ أنت أديبنا وسيدنا منذ خمسين سنة‏.‏

وكان الإمام سفيان الثوري يقول‏:‏ أما الأصمعي فأحفظ الناس وأما أبو عبيدة فأجمعهم وأما أبو زيد الأنصاري فأوثقهم‏.‏

وكان النضر بن شميل يقول‏:‏ كنا ثلاثة في كتاب واحد أنا وأبو زيد الأنصاري وأبو محمد اليزيدي وكان أبو زيد المذكور له في الأدب مصنفات مفيدة منها‏:‏ ‏"‏ كتاب اللغات ‏"‏ و ‏"‏ كتاب النوادر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب خلق الإنسان ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الإبل ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الوحوش ‏"‏ و ‏"‏ كتاب المصادر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الفرق ‏"‏ و ‏"‏ كتاب المياه ‏"‏ و ‏"‏ كتاب حسن في البيان ‏"‏ جمع فيه أشياء غريبة و ‏"‏ كتاب غريب الأسماء ‏"‏ وغير ذلك جميعها يقارب عشرين مصنفاً‏.‏

وحكى بعضهم قال‏:‏ كنت في حلقة شعبة بن الحجاج فضجر من إملاء الحديث فرمى بطرفه فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال‏:‏ يا أبا زيد فجاءه فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار فقال بعض أصحاب الحديث‏:‏ يا أبا بسطام نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتدعنا وتقبل على الأشعار قال‏:‏ فغضب شعبة غضباً شديداً ثم قال‏:‏ يا هؤلاء أنا أعلم بالأصلح إلي أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك قلت‏:‏ كأنه والله أعلم يشير إلى ترويح القلب بالشعر عند سأمته كما قال أبو الدرداء‏:‏ إني لاحم نفسي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق ولأنه عند شرح الأحكام نخشى من الوقوع في خطر يؤدي إلى الأنام وعمر رحمه الله تعالى حتى قارب المائة وقال بعض العلماء‏:‏ كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة وكان أبو زيد يحفظ ثلثها وكان صدوقاً صالحاً رحمة الله عليه‏.‏وفيها وقيل‏:‏ في سنة سبع عشرة ومائتين توفي أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد الكاتب أحد وزراء المأمون وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وخيرها شديد المقاصد والمعاني أمره المأمون أن يكتب كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والإعتناء بأمره فكتب له‏:‏ كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معتبي لمن كتب له ولن يضيع بين الثقة والعتابة بوصله والسلام وقيل هذا من كلام الحسن بن وهب والأول أصح وأشهر وله كل معنى بديع وله رسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء وقد تزوجت أمه فساءه ذلك فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها وذهب عنه ما كان يجده وهي الحمد لله الذي كفر عنا شر الخيرة وهدانا لستر العورة وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة ومع من عضل الأمهات كما منع من وأد البنات استنزلاً للنفوس الأبية عن الحمية حمية الجاهلية ثم عرض بجزيل الأخذ من استسلم لواقع قضائه وعرض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه وهناك الذي شرح للتقوى صدرك ووسع في البلوى صبرك وألهمك التسليم لمشيئته والرضا بقضيته‏.‏

وقال أحمد بن يوسف الكاتب‏:‏ وصلت إلى المأمون وهو ممسك كتاباً بيده وقد أطال النظر فيه زماناً وأنا ملتفت إليه فقال‏:‏ يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه مني قلت‏:‏ نعم وقى أمير المؤمنين المكاره وأعاده من المخلوف قال‏:‏ فإنه لا مكروه فيه ولكني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد يقول في البلاغة كان يقول‏:‏ البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى أو قال‏:‏ على الكثير من المعنى وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب قال‏:‏ ورمى به إلي وقال‏:‏ هذا الكتاب من عمرو بن مسعده إلي فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أخياره في الأنقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت عطياتهم واختلت كذلك أحوالهم والثابت معهم أمورهم فلما قرأته قال‏:‏ إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند بعطياتهم بسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب لما يستحقه من جل محله في صياغته أو صناعته‏.‏

وفيها توفي الأخفش الأوسط إمام العربية أبو الحسن سعيد بن مسعدة النحوي البلخي المجاشعي أحد نحاة البصرة‏.‏

وأما الأخفش الأكبر فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد وكان نحوياً لغولاً وله ألفاظ لغوية انفرد بها عن العرب وعنه أخذ أبو عبيدة وسيبويه وغيرهما فمن في طبقتهما ووقت وفاته مجهول فلهذا لم يفرد بترجمة‏.‏

وأما الأخفش الأصغر وهو أبو الحسن علي بن سليمان البغدادي النحوي أخذ عن ثعلب والمبرد وسيأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في سنة خمس عشرة وثلاث مائة فبين موت أخفش الأوسط الأصغر مائة سنة والأوسط المذكور كان من أئمة العربية أخذ النحو عن سيبويه وكان يقول‏:‏ ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه علي وكان يرى أنه أعلم مني وأنا اليوم أعلم به وهذا الأخفش المذكور وهو الذي زاد في العروض واحداً من البحر على ما وضعه الخليل المشهور‏.‏

وحكى أبو العباس ثعلب عن أبي سعيد بن سلمة قال‏:‏ دخل الفراء على سعيد بن مسعدة المذكور فقال لنا‏:‏ جاءكم ممتد أهل اللغة العربية فقال الفراء‏:‏ أما ما دام الأخفش يعيش فلا وللأخفش المذكور عدة تصانيف منها ‏"‏ الكتاب الأوسط ‏"‏ في النحو و ‏"‏ كتاب تفسير معاني القرآن ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الإشتقاق ‏"‏ و ‏"‏ كتاب العروض ‏"‏ و ‏"‏ كتاب القوافي ‏"‏ و ‏"‏ كتاب معاني الشعر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الملوك ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأصوات ‏"‏ و ‏"‏ كتاب المسائل الكبير ‏"‏ و ‏"‏ كتاب المسائل الصغير ‏"‏ وغير ذلك وكان أخلع ‏"‏ وهو الذي لا تنضم شفتاه على أسنانه ‏"‏ ‏"‏ والأخفش ‏"‏ هو الصغير العينين مع سوء بصرهما وكان يقال له الأخفش الأصغر حتى ظهر علي بن سليمان المعروف بالأخفش الأصغر فصار هذا وسطاً ‏"‏ ومسعدة ‏"‏ بفتح الميم وسكون السين وفتح الدال والعين المهملات وبعدهن هاء ساكنة ‏"‏ والمجاشعي ‏"‏ بضم الميم وقبل الألف جيم وبعدها شين معجمة مكسورة مهملة ثم عين ثم ياء النسبة إلى الشاعر المشهور‏:‏ فوا عجباً حتى كليب يشينني كأن أباها مغهل أو جاشع وفيها توفي محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة وعالمها وسيدها وهو من كبار شيوخ البخاري عاش سبعاً وتسعين سنة‏.‏

وفيها توفي محمد بن المبارك الصوري أبو عبد الله الحافظ صاحب سعيد بن عبد العزيز قلت‏:‏ وهذا الإسم نسبة لمحمد بن المبارك الصوري تشفعت به شجرة الرمان إلى إبراهيم بن أدهم أن يتناول منها شيئاً أو بأقل من رمانها شيئاً وقد تقدم ذكر ذلك ومحمد بن المبارك هذا كان صحب إبراهيم بن أدهم وإبراهيم بن أدهم توفي قبل هذا التاريخ بثلاث وخمسين سنه فإنه توفي سنة اثنتين وستين ومائة ويحتمل أنه هو والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو السكن ‏"‏ مكي بن إبراهيم البلخي الحافظ ‏"‏ وأبو عامر قبيصة بن عقبة الكوفي الحافظ العابد الذي يقال له راهب الكوفة وكان هناد بن السرفي إذا ذكره دمعت عيناه وقال‏:‏ وفيها توفي محدث مرو علي بن الحسن كان حافظاً كثير العلم كتب الكثير حتى كتب التوراة والإنجيل وجادل اليهود وفيها توفي الحافظ يحيى بن حماد البصري الحافظ‏.‏

 سنة ست عشرة ومائتين

فيها غزا المأمون فدخل بلاد الروم وأقام بها ثلاثة أشهر وافتتح آخره عدة حصون وأغار جيشه فغنموا وسبوا ثم رجع إلى دمشق ودخل الديار المصرية‏.‏

وفيها توفيت زبيدة بنت جعفر بن المنصور أم محمد الأمين بن هارون الرشيد وكان لها معروف كثير وفعل خير شهير وقصتها في حجتها وما اعتمدته في طريقها شهيرة وذكر ابن الجوزي أنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار وأنها أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال ويجوب الصخرة حتى عللت من الحل إلى الحرم عملت عقبه البستان فقال لها دليلها‏:‏ يلزمك نفقة كثيرة فقالت‏:‏ اعمل ولو كانت ضربة فاس بدينار‏.‏

قلت‏:‏ وهذه العين المذكورة التي أجرتها أثارها باقية مشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه ‏"‏ برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جداً لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط ‏"‏ كالبير يسمونه ‏"‏ لظلمته يفزع بعض الناس إذا ترك فيه وحده نهاراً فضلاً قالوا‏:‏ وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن لكل واحدة ورد عشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل في قراءة القرآن وأسمها أمة العزيز ولقبها جدها المنصور زبيدة لبياضها ونضارتها وقال الطبري‏:‏ أعرس بها هارون في سنة خمس وستين ومائة‏.‏

قلت‏:‏ لعل هذه عاشت بعد الرشيد فوق عشرين سنة‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي الأصمعي المشهور اللغوي الأخباري البصري المشبه بنغمات بلبل الألفاظ المطربة على فتن بوجه فنون النوادر المعجمة سمع ابن عون والكبار وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء وكانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته عاش ثمانياً وثمانين سنة وله عدة مصنفات وكان إماماً في اللغة والأخبار والنوادر والمالح والغرائب والأشعار وهو من أهل البصرة ثم قدم بغداد في أيام هارون الرشيد‏.‏

قيل لأبي نواس‏:‏ قد حضر أبو عبيدة والأصمعي عند الرشيد فقال‏:‏ أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والأخرين وأما الأصمعي فبلبل يطربك بنغمات‏.‏

وعن الأصمعي أنه قال‏:‏ أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة ويروى‏:‏ أربعة عشر ألف أرجوزة منها المائة والمائتان‏.‏

وقال الربيع بن سليمان‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي وقال إسحاق الموصلي‏:‏ لم أر الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحد أعلم به منه‏.‏

وقال أبو أحمد العكبري‏:‏ لقد حرض المأمون على الأصمعي وهو بالبصرة أن يصير إليه فلم يفعل واحتج بضعفه وكبره وكان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويثير ذلك إليه فيجيب عنه‏.‏

وذكر في كتاب المقتبس عن ابن عريد أو أبي حاتم قال‏:‏ كنا عند الحسن بن سهل وبالحضرة جماعة من أهل العلم منهم جرير بن حازم ومعمر بن المثنى والأصمعي والهيثم بن علي في جماعة من هذا السن وحاجب الحسن يعرض عليه قصصاً وهو يوقع في كل قصة ما ينبغي لها حتى مر بخمسين قصة فلما نفض ما بين يديه أقبل علينا فقال‏:‏ قد فعلنا في يومنا خيراً كثيراً ورفعنا في هذه القصص بما فيه فرح لأهلها ونرجوا أن نكون في كل ذلك مثابين مشكورين فأفيضوا بنا في حق أنفسنا نتذاكر العلم فتكلم أبو عبيدة والأصمعي والهيثم إلى أن بلغوا من ذكر ألفاظ من أصحاب الحديث فأخذوا في الزهري والشعبي وقتادة وشعبة وسفيان فقال أبو عبيدة‏:‏ وما الحاجة إلى ذكر هؤلاء الجلة‏.‏

وما ندري‏:‏ أصدق الخبر عنهم أم كذب‏.‏

إن بالحضرة رجلاً يزعم أنه ما نسي شيئاً وأنه ما يحتاج أن يعيد نظره في دفتر إنما هي نظرة ثم قد حفظ ما فيه ‏"‏ يقصد الأصمعي ‏"‏ فقال الحسن‏:‏ نعم يا أبا سعيد تخبر من هذا إنما ينكر جداً فقال الأصمعي‏:‏ نعم أصلحك الله ما أحتاج أن أعيد النظر في دفتر وما أنسيت شيئاً قط فقال الحسن‏:‏ فنحن نجرب هذا القول بواحدة يا غلام هات الدفتر الفلاني فإنه يجمع كثيراً مما قد أنشدتناه وحدثتناه قال‏:‏ فأدبر الغلام ليأتي بالدفتر فقال الأصمعي‏:‏ أعزك الله وما الحاجة إلى هذا‏.‏

أنا أريك ما هو أعجب منه أنا أعيد القصص التي مرت وأسماء أصحابها وتوقيعاتها كلها فامتحن ذلك بالنظر إليها وقد كان الحسن قد عارض بتلك التوقيعات وأثبتها في دفتر البيت قال‏:‏ فأكبر ذلك من حضر وعجبوا واستضحكوا فقال الحسن‏:‏ يا غلام اردد القصص فردت وقد شدت في خيط كي يتحفظ فابتدأ الأصمعي فقال‏:‏ القصة الأولى لفلان ابن فلان قصة كذا وكذا ووقعت أعزك الله بكذا وبكذا - حتى أنفذ على هذا السبيل سبعاً وأربعين قصة فقال الحسن بن سهل‏:‏ يا هذا حسبك الساعة والله أقبلك بعين يعني أصبتك بعيني يا غلام أحضر خمسين ألفاً فأحضرها بحراً ثم قال‏:‏ يا غلمان احملوا معه إلى منزله قال‏:‏ فتبادر الغلمان بحملها فقال‏:‏ أصلحك الله تنعم بالحامل كما أنعمت بالمحمول‏.‏

قال‏:‏ هم لك ولست منتفعاً بهم واشتريتهم منك بعشرة آلاف درهم احمل يا غلام مع أبي سعيد ستين ألفاً قال‏:‏ فحملت معه وانصرف الباقون بالخيبة فقال أبو حاتم‏:‏ ما رأيت رجلاً أحسن ترجمة من الأصمعي وسألته‏:‏ لأي شيء قدم جرير بن قدامة‏.‏

قال‏:‏ كان أعرفهم وأعز لهم وأقدمهم رقة وأتحمهم هجاء قال أبو حاتم‏:‏ معنى التحكم ‏"‏ بالمثناة من فوق والحاء المهملة ‏"‏ التي أنصبتهم‏.‏

وروى الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة وما مات حتى أخذ وفي رواية أخرى‏:‏ ما مات حتى كتب‏:‏ أو رد عليه الحرف الذي لا يعرفه فيقبله مني ويتعقد ثقة‏.‏

وذكر في ‏"‏ المقتبس ‏"‏ أنه لما قدم الرشيد البصرة قال جعفر بن يحيى للصباح بن عبد العزيز‏:‏ قد عزم أمير المؤمنين على الركوب في زلال في نهر الأبلة ثم يخرج إلى دجلة ويرجع في نهر معقد وأحب أن يكون معه رجل عالم بالقصور والأنهار والقطائع ليصفها له فقال‏:‏ لا أعرف من يفي بهذا ويصلح له غير الأصمعي قال‏:‏ فأتني فأتيته فتحدث بين يدي جعفر فأضحكه وأعجبه فأدخله إلى الرشيد فركب معه فجعل لا يمر بنهر ولا أرض إلا أخبر بأصلها وفرعها وسمى الأنهار ونسب القطائع فقال الرشيد لجعفر‏:‏ ويحك ما رأيت مثل هذا قط من أين غصت عليه فلما قارب البصرة قال للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين والذي شرفني بخطابك إن لي من كل ما مررت به موضع قدم فضحك الرشيد وقال‏:‏ اشتر يا جعفر أرضاً فاشترى له بنهر الأبلة أربعة عشر جريباً بألف وأربع مائة دينار وكان جعفر قد نهاه عن سؤاله ووعده بكل ما يريد فقال له‏:‏ أما نهيتك عن سؤاله قال‏:‏ انتهزت الفرصة فأخبرته خبري فكرم‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كنت بالبادية‏.‏

كتب كل شيء أسمعه فقال أعرابي منهم‏:‏ أنت كمثل الحفظة تكتب اللفظة فكتبه أيضاً قال‏:‏ خرجت مع صديق لي بالبادية فبينا نحن نسير إذ ضللنا الطريق ثم نزلنا فإذا خيمة فقصدناها فسلمنا فإذا امرأة ترد علينا السلام وقالت‏:‏ ما أنتم قلنا‏:‏ قوم مارون أضللنا الطريق فرأيناكم فأنسنا بكم فقالت‏:‏ ولوا وجوهكم حتى أقضي من زمانكم ما أنتم له أهل ففعلنا فطرحت لنا مسحاً وقالت‏:‏ اجلسا حتى يجيء ابني فيقوم بما يصلحكم فجلسنا فجعلت ترفع طرف الخيمة وتنظر إلى أن نظرت فقالت‏:‏ أسألك الله بركة المقبل أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني فجاء الراكب حتى وقف عليها فقال‏:‏ يا أم عقيل عظم أجرك في عقيل قالت‏:‏ ويحك أمات ابني قال‏:‏ نعم قالت‏:‏ وما سبب موته قال‏:‏ ازدحمت الإبل على ابنك فرمت به في البير قالت‏:‏ انزل فاقض زمام القوم فنزل فذبح لنا كبشاً وأصلحه مع ملح وقربه إلينا فأكلنا ونحن نتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا فقالت‏:‏ يا هؤلاء‏:‏ هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً قال‏:‏ قلت نعم قالت‏:‏ فاقرأ علي آيات من كتاب الله أتعزى بها قال‏:‏ فقلت‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ‏"‏ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ‏"‏ فقالت‏:‏ الله إنها لفي كتاب الله هكذا قلت‏:‏ الله إنها لفي كتاب الله هكذا قالت‏:‏ فالسلام عليك ثم قامت فصفت قدميها ثم صلت ركعتين ورفعت يديها وهي تقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله أحتسب عقيلاً تقول ذلك ثلاثاً ثم قالت‏:‏ اللهم إتني قد فعلت ما أمرتني فأجزل ما وعدتني‏.‏وقال‏:‏ سهرت ليلة بالبادية وأنا نازل على رجل من بني الصيد وكان واسع الرحل كريم المحل وأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق فأتيت أنا مثواي فقلت له‏:‏ إني قد هلعت من طول الغربة واشتقت أهلي ولم تفدني قدمتي هذه إليكم كبير علم وإنما كنت أفتقر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة فقال‏:‏ فأظهر توجعا ثم أبرز غداء له فتغديت معه وأمر بناقة له مهرية كأنها سبيكة لجين فارتحلها واكتفلها ثم ركب وأردفني وأقبلها مطلع الشمس فما سرنا كثير مسير حتى لقينا شيخ على حمار ذو جمة قد نعمها بالورس كأنها ‏"‏ قنبيطة ‏"‏ بالقاف المضمومة ثم النون المشددة ثم الموحدة ثم المثناة من تحت ثم الطاء المهملة وهو يترنم فسلم صاحبي عليه وسأله عن نسبه فاعتزى أسدياً من بني ثعلبة فقال له‏:‏ يا ابن عم أتنشد أم تقول فقال‏:‏ كلا قال‏:‏ فأين تنزل فأشار إلى ماء قريب فأناخ الشيخ وقال لي‏:‏ خذ بيد ابن عمك فأنزله عن حماره ففعله فألقى له كساء كان اكتفل به بعيره فقال له‏:‏ أنشدنا رحمك الله وتصدق على هذا الغريب بأبيات يعيهن عنك ويذكرك بهن فأنشد‏:‏ لقد طال يا سوداء منك المواعد ودون الجدا المأمول منك الفوائد تمنيتها غدواً وغيمكم غدا أصاب فلا صحواً ولا الغيم جامد إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم نجد بفضل الغنى ألقيت ما لك حامد وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثاً وواراك لأحد إذا أنت لم يعزل بجنبك بعض ما تربت من الأدنى ورباك الأباعد إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل حبيباً كما استبلى لجيشة فائد إذا أنت لم تترك طعاماً تحبه ولا مقعد أتدعى إليه السوائد تجللت عاداً لا يزال بسبه سباب رجال نثرهم والقصائد وأنشد‏:‏ تعز فإن الصبر بالحر أجمل وليس على شرب الزمان مقول فإن تكن الأيام فينا تبدأت ببؤس ونعم والحوادث تفعل وقينا بعزم الصبر منا نفوسنا فصحت لنا الأعراض والناس هزل قال الأصمعي‏:‏ فنمت والله قد أنسيت أهلي وهانت علي الغربة وشطف العيش ‏"‏ يعني خشونته ‏"‏ سروراً بما سمعته‏.‏

وقال‏:‏ رأيت بالبادية شيخاً قد سقط حاجباه على عينيه فسألته عن سنه فقال‏:‏ مائة وعشرون سنة فقلت‏:‏ أرى فيك بقية فقال‏:‏ تركت الحسد فبقي علي الحسد فقلت له‏:‏ هل قلت شيئاً فقال‏:‏ بيتين في إخواني فاستنشدته فقال‏:‏ ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل أراك بصيراً بالذين تبيدهم كأنك تنحو نحوهم بدليل وقال وكان بالبصرة أعرابي من بني تميم يطفل أو قال‏:‏ يتطفل على الناس فعاتبته على ذلك فقال‏:‏ والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل ولا وضع الطعام إلا ليؤكل وما قدمت هدية إلا لتقبل فأتوقع رسولاً وما أكره أن أكون ثقلاً ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً وأقتحم عليه مستأنساً وأضحك إن رأيته عابساً وآكل برغمه وأوذعه بغمه فما أعد للهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق عليه درهم ولا يعنى فيه خادم ثم أنشأ يقول‏:‏ كل يوماً دور في عرصة الحي اسم القتار ثم ألف باب لم أودع دون التقحم لا أرهب دفعاً ونكرت البواب مع أبيات أخرى وقال عمرو بن الحارث الحمصي ما رأى الأصمعي مثل نفسه قط لقد قال الرشيد يوماً‏:‏ أنشدونا أحسن ما قيل في العقاب فعذر القوم ولم يأتوا بشيء فقال الأصمعي من أحسنه‏:‏ باتت بورقها في وكرها شعب وناهض مخلص الأقرات من فيها ثم استمر بها عزم فحذرها كأنما الريح هبت من خوافيها ما كان إلا كرجع الطرف أو رجعت فلا تمطرن مما في أسافيها ثم قال‏:‏ وهذا امرؤ القيس يقول‏:‏ كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والخشف البالي فقال الرشيد‏:‏ لله درك ما من شيء إلا وجدت عندك فيه شيئاً وقال عمرو‏:‏ دخل العباس بن أحنف على الرشيد وعنده الأصمعي فقال له‏:‏ أنشدنا من مكحل العربية فأنشده‏:‏ إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الناسا فصور هاهنا فوراً صور ثم عباسا ودع بينهما شبراً فإن زدت فلا بأسا وإن لم يدنوا حتى ترى رأسيهما رأسا فكذبها وكذبه بما قاست وما قاسا قال‏:‏ فلما خرج قال الأصمعي‏:‏ يا أمير المؤمنين مسروق من العرب والعجم فقال لي‏:‏ ما كان من العرب‏.‏

فقلت‏:‏ رجل يقال له عمر هوى جارية يقال لها قمراء‏:‏ إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب السرا فصور هاهنا قمراً وصورها هنا عمرا فإن لم يدنوا حتى ترى بشريهما بشراً فكذبها بما ذكرت وكذبه بما ذكرا وقال‏:‏ فما كان من العجم قلت‏:‏ رجل يقال له فلق ‏"‏ بسكون اللام بين الفاء المفتوحة والقاف ‏"‏ هوى جارية يقال لها روف فقال‏:‏ إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الخلقا فصور هاهنا روفا وصورها هنا فلقا فإن لم يدنوا حتى ترى خلقيهما خلقا فكذبها بما لقيت وكذبه بما يلقى قال‏:‏ فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب فقال‏:‏ عباس بالباب فقال‏:‏ ائذن له فدخلت فقال‏:‏ يا عباس تسرق معاني الشعر وتدعيه فقال‏:‏ ما سبقني إليه أحد فقال هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم ثم قال‏:‏ يا غلام ادفع الجائزة إلى الأصمعي قال‏:‏ فلما خرجنا قال العباس‏:‏ كذبتني وأبطلت جائزتي فقلت‏:‏ أتذكر يوم كذا ثم أنشأت أقول‏:‏ إذا ودندت امرؤاً فاحذر عداوته من يزرع الشوك لا يحصد به عنها‏.‏

قلت‏:‏ وقد خطر لي حال إملائي على الكاتب أن أردف هذا البيت بيتين مما يناسب فقلت‏:‏ ومن بدنياه لم يتعب بطاعته فداركم يلقى لها تعبا وقال الأصمعي‏:‏ قال هارون الرشيد ليلة وهو يسير في قبة‏:‏ يا أصمعي حدثني قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مزرد بن مرار كان شاعراً مليحاً ظريفاً وإن أمه كانت تبخل عليه بزادها وإنها غابت عن بيتها يوماً فوثب مزرد على ما في بيتها فأكله وقال‏:‏ ولما غدت أمي تزوز بناتها أغرت على العلم الذي كان يمنع خلطت بصاعي عجوة إلى صاع سمن فوقه يتردع ودلت بأمثال الأثافي كأنها رؤوس نقبا ذرفت لا تجمع وقلت ليتني لسر اليوم أنه حمى أمنا مما يفيد ويجمع فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه وإن كنت غرثاناً فذا يوم يشبع قال‏:‏ فضحك الرشيد وقال‏:‏ الدنيا ليس فيها مثلك حسن قال‏:‏ فدعوت له وفضلته على الملوك بحبه العلم وإحسانه أهله ‏"‏ قوله علم بكسر العين هو نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها ‏"‏ وكان الرشيد يحب الوحدة وكان إذا ركب عاد له الفضل بن الربيع وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه وإسحاق الموصلي يسير قريباً من الفضل وكان الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا وسر به وضحك فحسده إسحاق فقال إسحاق للفضل‏:‏ كل ما يقوله كذب فقال الرشيد‏:‏ أي شيء قال فأخبره فغضب الرشيد فقال‏:‏ والله إن كان ما يقوله كذباًً إنه لأظرف الناس وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ قال لي الرشيد‏:‏ أما ترى قبيح أسماء سكك بغداد مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء قلت‏:‏ نعم قد قال‏:‏ الراجز‏:‏ ‏"‏ ما ترى ملح بارف سقيت ماؤه بير فشر ورى فقر درى لحنونا فلحسه ‏"‏ فقال‏:‏ ولله درك يا أصمعي ما رأيت مثلك خلقت لهذا الشأنه وحدك‏.‏

وقال‏:‏ قدمت على الرشيد فاستبطأني فقلت‏:‏ ما لاقتني أرض حتى رأيت أمير المؤمنين فلما خرج الناس قال‏:‏ ما معنى ما لاقتني قلت‏:‏ ما ألصقتني بها ولا قبلتني فقال‏:‏ هذا حسن ولكن لا تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه حتى أجد جوابه فإذا خلوت فقل ما شئت وإنه لقبيح بالسلطان أن يسمع ما لا يدري فإما أن يسكت ويعلم الناس أنه ما فهم أو يجيب بغير الجواب فيتحقق عندهم ذلك فقلت‏:‏ قد والله أفسدت إفساداً في أمير المؤمنين عن التأدب أكثر مما أفسدته وقال‏:‏ قال لي المأمون أيام الرشيد‏:‏ لمن هذا البيت ما كنت إلا كلحم ميت دعا إلى أكله اضطرار فقلت‏:‏ لابن عيينة المهلبي فقال‏:‏ كلام شريف ثم قال لي‏:‏ يا أصمعي كأنه من قول الشاعر‏:‏ فقلت له‏:‏ والله جاؤا به الأمير وعجبت من فهمه مع صغر سنه‏.‏

قال‏:‏ الأصمعي‏:‏ كنت مع الرشيد في بعض أسفاره فعطش وقد تقدمته حمولة الثلج فأتي بماء من ماء الرحل فلما صار في فمه مجه فقال له أبو البختري‏:‏ يا أمير المؤمنين إني كنت ألتمس موضعاً لوعظك فلا أقدر عليه وقد وجدته أفتأذن يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو أكلت الطيب والخبيث وشربت الحار والقار ولبست اللين والخشن لكان أصلح لك فإنك لا تدري ما يكون من صروف الزمان قال‏:‏ فانتفخ في ثوبه حتى خلته سمعت أرغته ثم سكن فقال‏:‏ يا أبا البختري تلبس هذه النعمة ما لبسنا فإذا أعوذ بالله زالت عنا رجعنا إلى عود غير حوار‏.‏

وسأل الرشيد يوماً أهل مجلسه عن صدر هذا البيت‏:‏ ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه فلم يعرفه أحد فقال إسحاق الموصلي‏:‏ الأصمعي عليل وأنا أمضي إليه وأسأله عنه فقال الرشيد احملوا إليه ألف دينار لنفقته قال‏:‏ فجاءت رقعة الأصمعي وفيها أنشد في خلق الأحمر لأبي نسناس النهشلي‏.‏

وسائلته أين الرحيل وساءل ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه ودوابه يخشى بها الري سرت بأبي النسناس فيها ركائبه وذكر القصيدة كلها وقال الأصمعي‏:‏ بينما أنا مع الرشيد بمكة إذ عارضه العمري فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام غليظ احتمله لله عز وجل فقال‏:‏ أفعل فو الله لقد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال‏:‏ فقولا له ليناً‏.‏

قلت‏:‏ ومما يناسب هذا الكلام ما شاع في بلاد اليمن بين العلماء والعوام إن الإمام الكبير الولي الشهير إمام الفريقين وموضع الطريقين محمد بن إسماعيل الحضرمي قدس الله روحه كتب إلى الملك المظفر صاحب اليمن في سقيفة خزف‏:‏ يا يوسف فكتب المد يعاتبه ويقول‏:‏ أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني‏.‏

وفي رواية‏:‏ دع أنك موسى ولست بموسى وأني فرعون ولست بفرعون وقد قال الله تز وحل‏:‏ ‏"‏ فقولا له قولا ليناً ‏"‏ ‏"‏ طه‏:‏ 44 ‏"‏ أما تكتب إلي في ورقة بفلس قلت‏:‏ وقدم ذكر وعظ العمري لهارون في ترجمته‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كنت عند الرشيد بالرقة فبعث إلي فقمت وأنا وجل‏.‏فدخلت هو جالس على بسط وإذا كرسي خيزران إلى جانبه وجويرية خماسية جالسة على ذلك فسلمت فلم يرد علي وجعل ينكت في الأرض فأيست من الحياة فقال‏:‏ يا أصمعي ألم تر هذا الكذاب عبد بني حنيفة يقول لمعن بن زائدة وإنما هو عبد عبيدي‏:‏ وقلنا أين نذهب بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالاً وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالاً فجعلني وحشمي عيالاً لمعن وقال‏:‏ إن النوال قد ذهب فما تصنع بنا فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين عبد من عبيدك أنت أولى بأدبه وهو بالباب فقال علي به فأدخل فقال‏:‏ السياط فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط وهو يصيح ويقول‏:‏ يا أمير المؤمنين استبقني واذكر قولي فيك وفي أبيك قال‏:‏ وما قلت فينا‏.‏

فأنشده قصيدته التي يقول فيها‏:‏

ما تطفئون من السماء نجومها ** أو تمحقون من السمع هلالها

أم ترفعون مقالة عن ربه ** جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال أحزابه ** إن أتهم فأرتمو إبطالها

فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ** ألا تولغ دماءكم أشبالها

وقال‏:‏ فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه فلما خرج قال لي‏:‏ يا أصمعي من هذه‏.‏

قلت‏:‏ لا أدري قال‏:‏ هذه مواسية بنت أمير المؤمنين قم فقبل رأسها فقلت‏:‏ أفلت من واحدة ووقعت في أخرى إن فعلت أدركته الغيرة فقتلني فقمت وما أعقل فوضعت كمي على رأسها وفمي على كفي فقال لي‏:‏ والله لو أخطأتها لقتلتك قلت‏:‏ يعني لو أخطأت هذه وقال الأصمعي‏:‏ حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع فقال لي‏:‏ كم كتابك في الخيل فقلت‏:‏ مجلد واحد فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال‏:‏ خمسون مجلداً فقال له‏:‏ قم إلى هذا الفرس وأمسكه عضواً عضواً منه فقال‏:‏ لست بيطاراً وإنما هذا شيء أخذته من العرب فقال لي‏:‏ قم يا أصمعي وافعل ذلك فقمت وأمسكت ناصيته وشرعت أذكر عضواً عضواً وأضع يدي عليه وأنشده ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه فقال‏:‏ خذه فأخذته وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة كتبته إليه‏.‏

وروي عن طريق أخرى أن ذلك عند هارون الرشيد وأن الأصمعي لما فرغ من كلام في أعضاء الفرس قال الرشيد لأبي عبيدة‏:‏ ما تقول في ما قال قال‏:‏ أصاب في بعض وأخطأ في بعض فالذي أصاب فيه مني تعلم والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به‏.‏

وقال أبو العيناء‏:‏ أنشدني أبو العالية الشامي‏:‏ لا در در بباب الأرض أن فجعت بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى في الناس منه ولا من علمه خلفا قلت‏:‏ وقد روي عن أبي العيناء في ذم الأصمعي عن أبي قلابة بيتان يضادان ما مد في هذين البيتين كرهت ذكرهما لكون ما مدح به معلوماً عند الخلق وما ذمه به مجهولاً ومن مسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ‏"‏‏.‏

وبإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الكنز مر به الخضر عليه السلام كان لوحاً من ذهب مضروباً مكتوباً فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم عجباً لمن يعرف الموت كيف يفرح ولمن يعرف النار كيف يضحك ولمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ولمن يؤمن بالقضاء والقدر كيف ينصب في طلب الرزق ولمن يؤمن بالحساب كيف يعمل الخطايا لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

وبإسناده عن سلمة بن بلال قال‏:‏ قال علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه وللشيء على الشيء مقاييس مقاييس يقاس المرء بالمرء إذا هو ما شاء وبإسناده عن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ هذا المال لا يصلحه إلا ثلاث‏:‏ أخذه من فضله ووضعه في حقه ومنعه من السرف‏.‏

وقال‏:‏ لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطرف الجمرة رجلاً فقال له‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ طارق قال‏:‏ ابن من‏.‏

قال‏:‏ ابن شهاب قال‏:‏ ممن‏.‏

قال‏:‏ من الحرقة قال‏:‏ أين منزلك قال بجمرة النار قال‏:‏ بأيها قال‏:‏ بذات لظى قال‏:‏ أدرك أهلك فقد حرقوا فرجع إلى أهله فرجع إلى أهله فوجدهم قد احترقوا‏.‏

وبإسناده قال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ من أنعم الله عليه فليحمد الله ومن استبطأ عليه الرزق فليستغفر الله ومن حزبه أمر فليقل‏:‏ لا حول ولا قوة بالله ‏"‏‏.‏